نعمْ .. أنا غزة هاشم .. ومن منكم لا يعرف هاشم بن عبد مناف ، جدَّ الرسول الأمين محمد صلى الله عليه وسلم ؟
هاشم .. ذلك التاجر الصدوق الذي كان يمرُّ بي في رحلته للتجارة في الشام ، في ذهابه وإيابه ، فيقيم في خاناتي أياماً وليالي ، يكرم من يلقاه من أبنائي الأحرار الذين يستأهلون كلّ تكريم ، وقد مرض ذات ليلة وهو مقيم بين حناياي ، ثم توفي ، وهو في ريعان الشباب ، يا حسرة عليه .. كان ابن خمس وعشرين سنة وقد رثاه الشاعر الخزاعي بقصيدة جميلة ، أذكر لكم منها هذا البيت الجميل الذي يتحدث عن هاشم ، ويصفه بالندى ، أي الكرم :
مات (الندى) بالشام لمّا أن ثوى فيـه بغزّة هاشـم لا يبعـد فأنا غزة هاشم ، فهل عرفتموني ؟ أنا من أقدم المدن المأهولة في العالم ، بناني العرب الكنعـانيـون
قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة ، وكنت عاصمة العرب الفلسطينيين ، وقد تعرضت لعدوان الغزاة خلال عمري المديد ، فقد غزاني فراعنة مصر ، واحتلوني ، وجعلوا مني إحدى قواعدهم العسكرية ، كما غزاني واحتلني الآشوريون ، والبابليون ، والفرس الذين أطلقوا عليّ اسم (هازاتو) ثم عاد إليَّ أبنائي العرب ، وحرروني من كل أولئك الغزاة ، وأسموني (غزة) التي تعني عندهم (القوي) فأنا قوية بموقعي الاستراتيجي بين مصر والشام والحجاز على ساحل البحر الأبيض الذي كان يوماً بحيرة عربية إسلامية .. كنت ملتقى القوافل العربية ، وأقام فيّ العديد من عرب اليمن ، حتى دُعيتُ (حمراء اليمن) نسبة إلى القبائل العربية الحميرية اليمنية .
وغزاني اليونانيون ، وبنوا فيّ جامعة لتخريج رجال العلم والفلسفة .
وغزاني الرومان ، وأكرموني ، وجعلوا مني مدينة عامرة مزدهرة ، وإني لأفخر بالقائد العربي الصحابي الجليل عمرو بن العاص الذي حررني من سائر الغزاة الأجانب عام 634م ، وأعادني إلى أحضان العروبة الدافئ ، وأدخلني ضمن ديار الإسلام ، ومنذ ذلك التاريخ ، أصبحت غزة هاشم العربية المسلمة المجاهدة ، وسأبقى على الزمان ، مدينة الفداء والصمود ، والثغر المرابط في وجوه الغزاة من اليهود وسواهم من المحتلين .
بناني أبنائي الكنعانيون العرب على تل العجول الذي يرتفع عن سطح البحر خمسة وأربعين متراً ، وبنوا حولي سوراً منيعاً يحميني من الغزاة الطامعين بي وبخيراتي الزراعية ، فالبساتين ، وبيارات البرتقال والليمون ، وكروم التين والعنب والنخيل والزيتون والتوت وسائر الحبوب والخضراوات ، تحيط بي ، وهي غنية بالفواكه والحبوب ، كالحنطة والشعير ، والذرة ، وسواها من الحبوب ، وتسقي بعضها عشرات الآبار الخاصة والعامة .
وقد كان أهلي يزرعون ثلاثة ملايين دونم من أراضيَّ مخصصة للحبوب فقط .
والحقّ ... إن خيراتي كثيرة ، فإلى جانب الخيرات الزراعية ، هناك السمك اللذيذ الذي يملأ بحري ، ويتميز أبنائي بصيده ، وعمل عدة مأكولات لذيذة منه .
كان الغزاة يطمعون بمينائي الجميل ، وبموقعي الاستراتيجي أيضاً ، تجارياً وعسكرياً .
ومنذ أن دخلت في الإسلام ، عمر أبنائي الكثير من المساجد ، فإلى جانب مسجد السيد هاشم ، هناك المسجد الكبير المسمى بجامع غزة الكبير ، وهو من المساجد الأثرية ، يتوسط المدينة القديمة ، وهو ذو هندسة بديعة ، وبناء ضخم ، يحتوي على عدة سلاسل من العقود الحجرية البديعة البناء والمنظر .
وهناك جامع ابن مروان في حي الدرج ، وجامع الشمعة في حي النجارين ، وجامع الشيخ عبد الله الأيكي في حي التفاح ، وجامع المحكمة البردكية
في حي الشجاعية ، وغيرها من المساجد الحديثة التي نهض أبنائي المسلمون المؤمنون المجاهدون ببنائها في السنوات الأخيرة .ولعلكم تذكرون ، أنني أنجبت الكثير من العلماء والأئمة العظام ، كالإمام الشافعي رحمه الله تعالى رحمة واسعة ، فقد وُلد ونشأ في أحضاني ، وكان إماماً عظيماً ، وعندما ارتحل لطلب العلم ونشره في آفاق العالم الإسلامي ، بقي دائم الحنين إليَّ ، واسمعوا واقرؤوا هذين البيتين الجميلين لهذا الإمام الجليل :
وإني لمشتـاق إلـى أرض غـزة وإن خاننـي بعد التفـرّق كتمـاني
سقى الله أرضاً ، لو ظفرتُ بتُرْبها كحلتُ به ، من شدة الشوق ، أجفاني وأنا الآن مدينتان ، كما يدعونني ، غزة القديمة بأحيائي القديمة التي تشمل جزءاً من حي الدرج ، وحي الزيتون ، وغزة الجديدة من ناحية الغرب ، أو منطقة حي الرمال . ولسوري عدة أبواب : باب عسقلان القديم ، وباب الخليل ، وباب المنظار ، وباب الحجر ، وباب الداردوم، وباب الميناء .
ولعلكم تعرفون أن الإنكليز الخبثاء الأعداء عندما احتلوني مع سائر المدن والقرى الفلسطينية عام 1917 أنشؤوا سكة حديدية ربطتني بلبنان شمالاً ، وبمدينة القنطرة المصرية جنوباً . كما أنشؤوا على أرضي مطاراً عام 1927 أسموه مطار غزة .
وأما أبنائي ، فيعمل قسم منهم في الزراعة ، وقسم في صيد الأسماك ، وقسم في التجارة ، وقسم في الصناعة التقليدية ، مثل صناعة الخزف،والبسط ، والعباءات المصنوعة من وبر الجمال ، ومثل صناعة نسيج الأقمشة الصوفية والحريرية والكتانية ، وصناعة السجاد والحصر على الأنوال اليدوية التي أمتلك منها الآلاف ، كما أمتلك مئات الأنوال الآلية . ويتقن أبنائي صباغة الأقمشة بألوانها الزاهية الجميلة .
بقي أن أقول لكم : كان يتبع لي عدد من البلدات والقرى الجميلة ، مثل خان يونس ، ودير البلح ، وبيت حانون ، وبيت لاهيا ، ورفح ، وجباليا ، وبرقة ، والمسمية ، وهوج ، وعراق المنشية ، وغيرها من القرى الجميلة التي دمرها اليهود ، مثل : برقة ، وبيت داراس ، وبربرة ، وأسدود ، والجورة ، ودير سنيد ، وسمسم ، والسوافير الشرقية ، والسوافير الشمالية ، وكوكبا ، وهوج ، وعراق سويدان ، والفالوجة .
لقد دمر اليهود مئات القرى في فلسطين عندما احتلوها ، وأقاموا كيانهم الصهيوني على أرضها ، فما أصاب بعض القرى التابعة لي ، أصاب مئات القرى الأخرى في فلسطين التي أضاعها العرب بخلافاتهم ، وتآمر بعضهم ، وخيانة آخرين منهم .. لقد تخلى العرب واقعياً عني وعن أخواتي الأسيرات المحتلات .. تخلوا عن القدس ، وعن حيفا ويافا وجنين ، وعن عين كارم وطولكرم ونابلس والخليل .. تخلوا عن فلسطين ، وتركوها لقمة سائغة لليهود الذين جاؤوا من أنحاء الأرض ، وطردوا أهلنا منها ، وذبحوا ، ودمروا ، والعرب بين عاجز ، ومتآمر خائن ، وكذلك كان أبناؤنا في فلسطين ، بين عاجز وخائن ومتآمر ، ولكن الله لم يدع العرب من أهل فلسطين وغير فلسطين على ما هم عليه ، فبعث الله نفراً من العرب ، جعلوا القضية الفلسطينية قضية العرب والمسلمين ، واستنفروا العرب والمسلمين كافة للجهاد في فلسطين ، فهبت طائفة منهم مجاهدة ، تجاهد بما تملك من شبان وأموال ، وقدمت آلاف الأرواح الطاهرة فداء لفلسطين ، وما زال هؤلاء الأحرار المؤمنون الأطهار يجاهدون في سبيل الله ، من أجل إنقاذي وإنقاذ أخواتي من المدن والبلدات والقرى الفلسطينيات ، وسوف ينتصرون على اليهود وعملائهم من الفلسطينيين والعرب والعجم ، سوف يقهرون أعداء فلسطين الذين هم أعداء الله والإنسانية ، وسوف ينتصرون بإذن الله على اليهود وعملائهم ومسانديهم وأعوانهم في بلاد العرب والعجم .. في أوربا وأمريكا ، وقد بشركم وبشرنا بهذا النصر رسولنا القائد العظيم محمد صلى الله عليه وسلم حينما قال :
"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم ... قالوا: يا رسول الله ! وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس"
أي في سائر بلاد الشام التي باركها الله تعالى .
سوف ينتصر أبنائي بعون الله تعالى ، برغم الظلام والظلمات التي تخيم على فلسطين .. على القدس وغزة ، وعلى الخليل وجنين ونابلس ، وعلى حيفا ويافا وأمّ الفحم .. سوف ينتصرون بإذن الله ، ويرغمون أنوف اليهود وعملائهم وأعوانهم ، وسوف يطهرون الأرض الفلسطينية العربية المسلمة من أرجاسهم ، والله غالب على أمره ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون .